مقدّمة؛
الحمد لله الذي خصَّ هذه الأمة بعلم الإسناد، ويَسَّر لمن استهداه سبيل الهداية والرشاد، وهَّيأ طائفة أصفياء وبررة أتقياء وحُراساً أُمنَاء لحفظ حديث خير العباد، سيدنا وحبيبنا مُحَمدّ e . وبعد :
فإن من البلايا و الرَّزايا التي مُنيت بها هذه الأمة المحمدية وبخاصة في هذه الأيام : شيوع الأحاديث الموضوعة والأخبار الشنيعة المصنوعة، بين صفوف المسلمين وأهل العلم. وهذا والله بلاءٌ عظيم وداءٌ خطير، وشرٌ مسّتطير، يعين على نشر الأكاذيب و التُّرهات، وطمس معالم الهداية البيّنات. وإنا لنحمد الله جل جلاله أن هيأ علماء الإسلام : المحدثين الأجلاء، والحفاظ النبلاء للدفاع عن السنة النبوية المطهرة ودمغ الباطل وأهل البِدع الفجرة ونفي تحريف الغالين وأنتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. فوضعوا القواعد الثابتة، والقوانين المنضبطة لقبول السنة النبوية، والأخبار حتى أصبحت -بحمد الله تعالى- سالمة من كيد الكائدين، وافتراء الكاذبين، وتغيير المُبدلين. فكان الإسناد خَصِيصَة منْ خصائص هذه الأمة، وعمدة وشرطاً في تبليغ الإسلام و أحكام الشريعة. حتى ذكر الإمام الحجة الثقة عبدالله بن المبارك(تـ181هـ)-رحمه الله تعالى- قال : "الإسناد من الدين، ولولا الإسنادُ لقال من شاء ما شاء".حيث كانت ثقافة الإسناد هي التي تملأ الأجواء زمن تدوين الحديث.
وإن من ينظر إلى الكمّ الكبير من الأحاديث الموضوعة المبثوثة في بطون الكُتب، وتداولها ألسن الناس اليوم، قد يتساءل ماذا كان موقف العلماء تجاه هذه الأحاديث الموضوعة، وقد اختلطت بالأحاديث الصحيحة؟! وهو تساؤل في محله، فقد عُرضَ على الإمام عبد الله بن المبارك فقيل له :" هذه الأحاديث الموضوعة ؟؟ فقال: تعيش لها الجهابذة ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ ". وصدق الله العظيم فقد قيض لهذه الأمة رجالاً أمناء مخلصين، قاوموا الوضّع والوضاعين وتتبعوهم، وقد عاش لها الجّهَابذة حقاً فوضعوا منهجاً علمياً دقيقاً يميزون به الراوية الصّحيحة مِن المختلقة المفتراة ومنْ هؤُلاَء الجهابذة علماء تونس وشيوخ الزّيتُونة فمنذٌ دخول الإسلام إلى ربوع هذه البلاد الطيبة أنبرى أهلها إلى طلب العلم وعلمائها إلى مضاعفة النشاط العلمي فكان الإهتمام بالسنة الصحيحة الذي كان أهم هاجس عند علماء تونس فكانت الرحلة في طلب الحديث البداية ثمّ تدريس علوم الحديث في جامعة الزيتونة منذ تأسيسها سنة 116 هـ . مما أرسى مدرسة حديثية بتونس تمكنت من التصدي إلى تيار الوضع والتحذير منه. ونستعرض هنا جزءاً مما بذله علمائنا الإجلاء في مقاومة الوضع والتصدي للوضّاعين:
النّشاط في علم الحديث بتونس
حين ظهر الوضع في الحديث ضاعف علماء تونس نشَاطهم في الرّواية والدّراية على حد سَوَاء، و أعتنى أهلُ تونس بعلم الحديث بإعتباره مصدر أساسي بعد القرآن الكريم وكونه يحتوي على زبدة تراث الرسول الأعظم e. وألتمسوا في ذلك الأحاديث الصحيحة، فهرعوا إلى من بقي من الصحابة و من التابعين ومن الأيمة الأعلام رضوان الله عليهم أجمعين يسألونهم عما يسمعون من الأحاديث وهل قالها النبي e أم هي كذب مصنوع.
ففي علم الرواية : نشأ ما يسمى بـ"الرحلات" فقد قطع علماء تونس من الرّواة والمحدّثين الفيافي والقفار، للتأكد من حديث سمعوه، خشية خطأ الراوي أو تعمده في الزيادة. فأتجهوا إلى المشرق العربي (مصر، المدينة، مكة، الشام ...) طالبين الرواية، ملاصقين أهلها متكبدين المشاق للتحصيل على الأحاديث النبوية من رجالها ناقلين ما سمعوا، و ما رووا، وماكتبوا إلى القيروان ثمّ الى المهدية ثمّ الى تونس.
وكان من أوئل الرّحالة " خالد بن أبي عمران التوجيبي " (تـ 125هـ/742مـ) مؤسس المدرسة الحديثية التونسية وناشر العلم بإفريقية . حيث أن بعض الدارسين يطلقون على طريقته العلمية أسم مدرسة ويجعلونها تتميّز برواية الحديث و تتأثّر بمنهج المحدّثين بناءً على أنّ شيوخه من كبار المحدّثين، و أنّ أُصُول رسالته الفقهية التي ألّفها من أجوبة أساتذته من الفقهاء السبعة بالمدينة وغيرهم على أسئلته مستمدّة منْ حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام فهي على غرار الموطأ.
وبعث الخليفة الأموي "عمر بن عبد العزيز" (تـ101هـ/719مـ) بعثته المشهورة إلى إفريقية. وهي بعثة مكونة من عشرة علماء ليفقهوا الناس ويعلموهم القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وكلهم ثقات عند المحدثين. فأصلوا بذلك علم الحديث والفقه بتونس منذ القرن الثاني هجري، ونشروا الأحاديث الصحيحة التي جاءت عن السلف الصالح فكانت مشكاة أنوار لطالب الحديث بالمغرب وأصلت لمدرسة الحديث بتونس كما ذكر ذلك أبو العرب التميمي (تـ333هـ/944مـ)، والملاحظ أن جلّ هؤلاء العشرة من رجال الكتب الستة ،وقد ترجم لهم ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب.
ويعتبر "علي بن الزياد"(تـ183هـ/799مـ) من العلماء الذي بثّ علوم الحديث في المغرب فعمت جميع أقطاره بدون استثناء وهو أول من وضع بذرة المدرسة الحديثية المالكية بالمغرب إلى جانب الفقه. بعدّ أن جاب أمصار الشرق فزار مصر والحجاز و العراق و أخذ من عُلّمَائها أمثال سفيان الثوّري (تـ161هـ) واللّيث بن سعد (تـ175هـ)، ومالك بن أنّس (تـ179هـ)، وما عاد إلى وطنه تُونس إلاّ وقد ألمّ بأهمّ علومهم وطرائقهم . وقد أصّل علي بن زياد المذهب المالكي بتونس فكان أول من فسر لأهل تونس قول مالك في الموطأ، وقد جرى على نسق سلفه في إقامة دعائم المدرسة التونسية على "فقه الموطّأ المؤسس على الدّعائم الصحيحة من الحديث و الأثَّار" .
فكان لعمل هؤلاء الرجال أو قُل الجهابذة الأفذاذ دور كبير في حفظ السنة النبوية المطهرة ونشر ماصّح منها في أقطار المغرب العربي والتصدي لتيار الوضع و مقاومة الأكاذيب المختلقة على كلام خير البشر فجزاهم الله كل خير على جهودهم هذه. والملاحظ أن تونس ولاّدة للعلماء فلم تنبض ولن تنبض من العلماء إن شاء الله فقد واصل تلامذة علي بن زياد ثم من والهم إلى حفظ السنة ومضاعفة النشاط العلمي بتدريس علوم الحديث والسنة في المساجد والتأليف في ذلك وقد تزامن ذلك مع بناء الجامع الأعظم "جامع الزيتونة" على يد عبد الله بن الحبحاب سنة 116هـ منارة العلم في المغرب و الأمة بأسرها .
زيتونة نفـحـاتها قُدسيّـة *** الله بإسمِهِ قدّ أعَزّ جَنَابهَا
أرسى ابن حبحاب قواعـدمجّدِها *** فأضَاء مصّبَاح التُقَى محرَابهَا
رجال الحديث بتونس؛
وقد أنبرى لذلك الدور الكبير والعلم الشريف في مواصلة عمل السلف في نشر الحديث علماء أفذاذ مثل ؛
البهلول بن راشد (تـ182هـ/798مـ) وعبدالله بن فروخ الفارسي (تـ176هـ/792مـ) وأسد بن الفرات (تـ212هـ/827مـ) و الإمام سحنون ابن سعيد التنوخي (تـ 240هـ/854مـ) الذي أحضر المدونة في رواية ابن زياد عن الإمام مالك . وتواصلت الرحلات إلى المشرق الإسلامي ناقلة التراث الحديثي معتنية بالرواية ونقد الرجال وتعديلاً وضبط أسانيد ، وممن اِشتهر من الأفارقة في هذا العلم رجال ذكرتهم كتب الطبقات والتراجم مثل طبقات أبي العرب ورياض النفوس والمدارك.
وتواصل الإهتمام بالحديث وبدئ التأليف فيه جمعاً وبحثاً عن عوَاليه ، ونقداً لرجاله وشرحاً لما يحتاج إلى الشرح مستعينين بالرّحلات والمراسلات ، وممن عنى بالتأليف فيه ؛
_"أبو عبد الله محمد سحنون": (تـ256هـ/864مـ) له كتاب "تفسير الموطأ" في أربعة أجزاء ، و كتاب "المسند في الحديث" وهو كبير ، و كتاب " السير" ، و"رسالته في السنّة" .
_"أبو العرب محمد بن أحمد التميمي" تـ333هـ/944مـ) له سند أحاديث مالك ، له "طبقات علماء أفريقية" و "ثقات المحدثين وضعافهم" وكتاب: عوالي حديثه
_"علي بن محمد بن خلف المعروف بأبي حسن القابسي" تـ403هـ/1012مـ) كان حافظ ، وعارف بعلل الحديث له :"الملخص في إختصار الموطأ" ، وذكر أنه أول من أتى بصحيح البخاري إلى إفريقية .
_"أبو عمران موسى بن عيسى الخفجوني الفاسي القيرواني" (تـ430هـ/1038مـ) ذكر عنه انه يعرف معاني الأحاديث ورجاله له كتاب "عوالي حديث" .
_"أبوعمرو عثمان بن أبي بكر حمود الصفاقسي المعروف بإبن الضابط الصفاقسي" (تـ444هـ/1052مـ) رحالة له "عوالي تعرف بعوالي الصفاقسي"
_"الإمام المازري محمد بنعلي بن عمر التميمي" تـ536هـ/1141مـ) صاحب كتاب "المُعلم بفوائد مسلم" ولعله أول تأليف في صحيح مسلم بإفريقية وقد لقى رواجاً كبيراً في الأوساط الإفريقية والأندلسية فأصبح يدرس وتناقش مسائله ويطلب فيه الإجازة وتكتب حواله تعاليق وحواشي.
_"أبوعبد الله محمد بن خلفة بن عمر الوشتاتي التونسي المالكي الشهير بالأبّي" (تـ828هـ/1424مـ) وهو الذي قال فيه شيخه محمّد إبن عرفة (ت803هـ) قوله المشهور "كيف أنام وأنا بين أسدين الأبّي بفهمه وعقله والبرزلي بحفظه ونقله " إنما هي شهادة على المكانة التي كان يحظي بها الأبّي عند شيخه الذي يحسب أن تلميذه سيُحيِ دين الله ويحفظ سنة نبيه ويدفع عنها من الشبهات وتجسد ذلك فعلا في مصنفه"إِكْمَال إكْمَال المُعْلِم".
وفي أوائل العهد الحفصي طرأ على النشاط الثّقافي التونسي حدثاً، كانت له أهمية قصّوى في حركية العلوم الإسلامية أعني هجرة الكثير من العلماء الأعلام من الأندلس . فقد كان لها تأثير ذُو وَبَال على علم الحديث رواية و دراية، بفضل ما جلبوا من روايات وما نقلوا من كتب حديثيه شملت كافة علوم الحديث ومسائله كانت مدار أبحاثهم، وأبحاث من سبقهم من علماء منذ العصور الأولى بالأندلس ذلك لأن علماء هذا البلد الإسلامي اِعتنوا بالحديث رواية ودراية فقد اِرتحلوا وحفظوا وقيدوا ورووا ونقلوا من الروايات الحديثية الشئ الكثير ونقدوا وكتبوا في هذا العلم وفي فضائله وأكبوا على دراسة روايته ومسنديه ومؤلفيه. وألفوا في رجاله وكل ما يتصل بهم من أنساب وتعديل وتجريح وصحبة ونقاد الأحاديث والمعتنين به، وشغفوا بمصطلح الحديث، ونافسوا في كل ذلك علماء المشرق حتى كادوا يساوونهم، وأكثروا من المستخرجات وتفننوا في الجمع بين صحاحه، وعددّوا التأليف حول صحيح البخاري شارحين متونه متدارسين فقه تراجمه ناقدين لأسانيده ... كما كتبوا عن سنن أبي داود والنسائي وجامع الترمذي ثمّ شاع عندهم صحيح مسلم فشرحوه وتتبعوا أسانيده، ونقدوا طريقته، وأضافوا إلى الشروح شروحاً وتعاليق وحواشي ولخصوا وأختصروا ودونوا الكتب .
ولم يطرَأ على هذا النشاط الحديثي أي تقطيع، ولم يعب هذا الإعتناء بأي آنفصام فيما يبدوا حتى إذا ما حل النصف الأول من القرن السابع هجرياً معظمهم إلى افريقية نقلوا معهم الثروة الحديثية وشاركوا برصيدهم ذلك علماء تونس وبهذا تكونت تلك الحركية النشيطة في ميدان علوم الحديث فبرز بتونس من العلماء المعنيين بالحديث أمثال :
_ "أبوالحجاج يوسف بن محمد بن إبراهيم البياسي" تـ635هـ/1255مـ محدث فاضل من طلبته الأمير الحفصي وجمع له أحاديث كتاب "المستصفى" وأستخرجها من الأمهات ونبه على الصحيح منها و السقيم.
_"أبو بكر محمد بن أحمد المعروف بإبن السيد الناس" تـ659هـ/1261مـ محدث حافظ وراوية، يقم على البخاري قياماً حسناً، كان عالماً بالإسناد والرجال نسبياً وتعديلاً وتجريحاً وعارفاً بالعربية وفقه الحديث والخلاف العلمي يذكر أنه أستظهر ستة ألاف حديث بأسانيدها ويذكر بإضعافها .
_"أبو زيد عبد الرحمن بن علي بن عبد الله الأنصاري الأسدي القيرواني" تـ699هـ/1299مـ محدث مسند من تأليفه :"سراج المتقين المنتخب من كلام سّيد العالمين"
هذا وفي رحلة ابن رشيد، خصوصاً الأجزاء الخاصة بتونس، فوائد غزيرة تخص النشاط الحديثي في هذا العصر، وهي لازالت مخطوطة وتوجد نسخة منها لدى الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة. وهي تستحق العناية لكونها تحمل تاريخ مدرسة الحديث بتونس.
انجازات المدرسة الحديثيّة بتونس؛
والملاحظ هنا أن هذه الجهود العلمية بدأت تؤتي أكلها فظهرت كتب الحديث بتونس وأصبحت تدرس في المساجد وفي جامع الزيتونة. فقد أهتم علماء تونس وبذلوا كل جهدهم في تدريس كتب السنة الصحيحة لطلبة العلم بالخصوص وعامة الناس عموماً ولعل من أهم هذه الكتب التي لقيت اِهتماماً كبيرًا :
"الموطأ": فمنذ وصوله إلى تونس على يد "خالد ابن أبي عمران" و "علي بن زياد"، أنكب عليه علماء تونس بدراسته وتدريسه رواية ودراية فكان يدرس في جامع الزيتونة وفي مدارس الحاضرة بشروحه المختلفة كـ"التمهيد لما في الموطأ من المعاني و الأسانيد" لأبن عبد البر وكتاب "التقصي" لأبن عبد البر كذلك ، وقدّ جمع فيه ما في الموطأ من الأحاديث المرفوعة موصولة كانت أم منقطعة، مرتبة على شيوخ مالك وكان بعض العلماء يفضّلونه على كتاب "الملخّص" في نفس موضوعه لأبي الحسن القابسي . وهذا الأخير ساهم بدوره إلى جانب أبو ميمونة دراس بن إسماعيل الفاسي (تـ 357هـ/967مـ) في تدريس الصحيحان في مساجد تونس.
بعد أنّ شدّوُا الرّحَال إلى المشرق لطلّب الرواية الصحيحة للبخاري إلى كل من مصر والعراق عن طريق "أبوهيثم الكشّمهِينِي" (تـ389هـ/999مـ) و"أبو أحمد الجُرجاني" (تـ 373هـ /983مـ) و أقبل عليه الناس دراسة ونقداً وقراءةً وإستشهاداً و مقارنة مع غيره من كتب الحديث . فلقد كانا يدرس و يناقش ما فيه ، ويتحدث عن رجاله .
أمّا عن"صحيح مسلم" فقد كانت العناية به أكثر ولا بد من التعرض هنا إلى أنّ الأهتمام بالصحيحين لم يبق بصفة متوازنة فقد تغلب الاِعتناء بصحيح مسلم بتونس كما يظهر من مؤلفات القرن السادس وما يليه وأصبحت أحاديث مسلم تطغى على صحيح البخاري لقد لفت هذا الأمر نظر القدامى أنفسهم فذكر أبن الصلاح (تـ642هـ/1245مـ) "أنّ شيوخ المغرب يفضلون كتاب مسلم على كتاب البخاري " نظراً لسهولة تناوله ولإجتماع أحاديثه في مظانها بدون تكرار ولا تقطيع ، كما أنّ ابن خلدون الذي تعلم بتونس أواسط القرن الثامن ودرس فيما درس كتب الحديث وسمع من أساتذته ...جلبت نظره أيضاً كثرة عناية أهل المغرب بصحيح مسلم و إنكبابهم عليه .وأنهم مجمعون على تفضيله على كتاب البخاري.
ويظهر أنّ من الأسباب التي جعلت لكتاب مسلم تلك المنزلة المرموقة هو قيام الإمام المازري(ت536هـ) بتدريسه بالمهدية و تقييد تلاميذه لتلك الدروس و إنتشار "المُعْلَم" بإفريقة و الأندلس ثم قيام القاضي عياض(ت544هـ) بتأليف كتابه "إكمال المعلم" الذي أجاد فيه و أحسن فكان عمدة من جاء بعده من الشراح حتى أن بعض العلماء النقّاد قال : " لولا الإكمال لما علم النووي أين يمشي وأين يجيء " . وبهذا العمل وذاك سهل تناول كتاب مسلم ، وذلك حين أبعداً شريحهأً عن الأطناب في الرجال ومايتصل بهم من أنساب وجرح و تعديل ونقد ومن الإسناد وما يتصل به عن طرق تحمل وصيغة. لقد كان إكمال المعلم يدرس ويناقش من طرف شيوخ الزيتونة كأبي المنتصر ابن عبد السلام ومحمد بن عرفة وغيرهم .
بعد أن تداول الموطإ بإفريقية وصحيح البخاري ومسلم بإفريقية، تداولت أيضاً بقية الكتب الحديثية الأخرى غير أن أكثرها إستخدماً وأوسعها إنتشاراً كتب السنن المشهورة، إضافة إلى مصنفات من الطبقة الثالثة: كمصنف عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت211هـ/826مـ)، وكتاب "السنن" لأبي الحسن علي بن عمر الدراقطني (ت385هـ/995مـ) و"التقصي لأحاديث الموطأ" لأبن عبد البرّ و"مقدمة ابن الصلاح" في المصطلح و"إكمال المعلم" للقاضي عياض وكتاب "الشفا" وهو أكثر الكتب إنتشاراً بين أهل تونس والمغرب إلى جانب الأربعون للنووي. وبهذا إكتسب علماء تونس علم الحديث رواية و دراية بعد أن علموا قوانينه المخصوصة التي يتميز بها الغث من السمين، في معرفة الحديث فجعلوها قائمة على أصول أسسها علماء الحديث ليبنوا عليها أحكامهم، ومنها :
إعتنائهم بفن التواريخ، ليعلم منه تاريخ الراوي ووفاته، يقول سفيان الثوري: "لما أستعمل الرواة الكذب، أستعملنا لهم التاريخ" . فالتاريخ مَثلَ أداة أساسية وكشاف للمحدثين في نقد الرواية واِكتشاف الوضع.
فن الجرح والتعديل، وبه اِستطاعوا معرفة أحوال الرواة، فأنكشف لهم الوضّاعون. وهو مطلب مهم جليل إذّ عليه مدار التّمييز بين الصّحيح والسّقيم من الحديث وكان ذلك نتاج الرحلة التي أفادت علماء تونس في معرفة أحوال رواة الحديث، وذلك عن طريق اِحتكاكهم بالنّقّاد، وحضورهم مجالس جهابذة علم الرّجال مثل :سليمان بن مهران الأعمش (ت148هـ) ، واللّيث بن سعد (ت175هـ)، وهشيم بن بشير(ت183هـ) ووكيع بن الجراح (ت197هـ)، وعبد الرحمن بن مهدي (ت198هـ)، وأبي الحسن أحمد بن عبد الله العِجْلِي الكوفي (ت161هـ)، وأحمد بن شعيب النسائي (ت303هـ) ، وغيرهم من المتكلمين في الرجال، والمقبول قولهم في الجرح والتعديل. وكان التونسيون ينقلون عن هؤلاء الشّيوخ ما أفادوه منهم ممّا يتعلق بأحوال الرّواة. وبالإضافة إلى ذلك فقد قاموا بإدخال جملة من المصنفات، المتعلقة بأحوال رواة الحديث ونشروها في تونس مماّ زاد في توطيد دعائم هذا الفن، مثل تاريخ يحي بن معين (ت 233هـ)، و "التاريخ الكبير" للإمام البخاري (ت256هـ) ، و"الأسماء والكنى" لأبي أحمد محمد الحاكم الكبير (ت378هـ)، وكتاب "الهداية و الإرشاد في معرفة أهل الثقة و السداد " لأبن نصر أحمد الكلاباذي (ت 39 ... .
النظر في كيفية التحمل وأخذّ الرواة بعضهم عن بعض، وعن طريقه عرف العلماء اتصال الروايات من اِنقطاعها.. إلى غير ذلك من القواعد التي وضعوها لدراية الحديث، وبها حققوا أقصى ما في الوسع الإنساني، اِحتياطا لدينهم، وأرسوا أصح القواعد للإثبات التاريخي وأعلاها وأرقاها، وقد قلدهم فيها علماء الفنون الأخرى من لغة وأدب وتاريخ ونحوها، فابن خلدون الذي يعد من أوائل نقاد التاريخ، أستمد ذلك من معارفه الحديثية، فكان ذلك في تمييزه الزائف والسقيم من أخبار المؤرخين، فمقاييسه التي طبقها هي بعينها الأمثلة التي وضعها الإمام مسلم و الإمام المازري و القابسي لمعرفة المنكر من الحديث.
وقد أشار الشيخ "محمد الحبيب بن الخوجة" إلى الفوائد الجمة من إتباع هذا المنهج الحديثي العلمي بقوله :" ولا بدّ من ملاحظة ما مرّ به العلمَ من مراحل الرواية والتحمل والتبليغ و التصنيف وقد خالط ذلك ما أساء إلى هذا العلم من تدليس ووضع وكذب ممن كان عاجزاً عن الإشتغال به رواية ودراية ،نقد واستنباطا. وذلك بسبب طلب الشهرة وعلو المنزلة العامة، وهذا من صنيع الوعاظ والقصاصين وأنصار المذاهب وحماة السنة والذائدون عنها المحققون لها لم يَألٌ أحدهم جهداَ في نقد الرواة والتعديل والتجريح وضبط الأسانيد الصحاح فوضعت بذلك شروط التخريج وبينت معاني الحديث ووَضع الكتب في مصطلح هذا العلم عمداؤه حتى أصبح علم الحديث أكثر العلوم الإسلامية إتقاناَ وإحكاماَ ، وكتبه أسلم من الإخلال التي لحقت غيرها من التصانيف ".
الأختام الحديثية بتونس : تعتبر الأختام الحديثية من أهمّ جهود علماء تونس المعاصرين في تنشيط علم الحديث بتدريس كتب السنة الصّحاح وشرحها للعامة في المساجد وهي أختام جامعة للدراية والرواية حرص فيها علماء تونس على المستوى العلمي وركزوا على تبليغ ماصّح عن النبي e وهي توجد بأكثر مدارس الحاضرة
و مساجدها الجامعة .
جامع الزيتونة : جامع الزيتونة الأعظم كمعهد دراسي له تاريخ مجيد درست فيه العلوم الحديثية رواية ودراية من القرن الثاني للهجرة جلس فيه للتدريس أمثال علي بن الزياد وهو من رجال ذلك القرن و تخرجت فيه طبقات اشتهرت في التاريخ بسمو المدارك العلمية وغزارة المعلومات وعلوا الكعب في التدريس والفتوى فالسند العلمي متصل الحلقات على مر العصور إلى عهدنا الحاضر وهو الميراث الإسلامي من رسول الله e. كان لتعليم الزيتوني ولا يزال الدور الكبير في حفظه و نشره و هو عمل جلي يستحق كل التقدير.
المصادر والمراجع
"مدرسة الحديث في القيروان من الفتح الإسلامي إلى منتصف القرن الخامس الهجري" شواط ,الحسين بن محمد، نشر: الدار العالمية للكتاب الإسلامي الطبعة الأولى/ 1411هـ .
"طبقات علماء إفريقية" : أبي العرب التميمي.
"المجلة الزيتونية"عدد 2/3 السنة الثانية والثالثة :ص52/53 .
"شيخ الإسلام الإمام الأكبر محمد الطاهر بن عاشور" لأبن الخوجة محمد الحبيب ج/1.
بقلم علي العلايمي ومحمد أمين الفاهم
الحمد لله الذي خصَّ هذه الأمة بعلم الإسناد، ويَسَّر لمن استهداه سبيل الهداية والرشاد، وهَّيأ طائفة أصفياء وبررة أتقياء وحُراساً أُمنَاء لحفظ حديث خير العباد، سيدنا وحبيبنا مُحَمدّ e . وبعد :
فإن من البلايا و الرَّزايا التي مُنيت بها هذه الأمة المحمدية وبخاصة في هذه الأيام : شيوع الأحاديث الموضوعة والأخبار الشنيعة المصنوعة، بين صفوف المسلمين وأهل العلم. وهذا والله بلاءٌ عظيم وداءٌ خطير، وشرٌ مسّتطير، يعين على نشر الأكاذيب و التُّرهات، وطمس معالم الهداية البيّنات. وإنا لنحمد الله جل جلاله أن هيأ علماء الإسلام : المحدثين الأجلاء، والحفاظ النبلاء للدفاع عن السنة النبوية المطهرة ودمغ الباطل وأهل البِدع الفجرة ونفي تحريف الغالين وأنتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. فوضعوا القواعد الثابتة، والقوانين المنضبطة لقبول السنة النبوية، والأخبار حتى أصبحت -بحمد الله تعالى- سالمة من كيد الكائدين، وافتراء الكاذبين، وتغيير المُبدلين. فكان الإسناد خَصِيصَة منْ خصائص هذه الأمة، وعمدة وشرطاً في تبليغ الإسلام و أحكام الشريعة. حتى ذكر الإمام الحجة الثقة عبدالله بن المبارك(تـ181هـ)-رحمه الله تعالى- قال : "الإسناد من الدين، ولولا الإسنادُ لقال من شاء ما شاء".حيث كانت ثقافة الإسناد هي التي تملأ الأجواء زمن تدوين الحديث.
وإن من ينظر إلى الكمّ الكبير من الأحاديث الموضوعة المبثوثة في بطون الكُتب، وتداولها ألسن الناس اليوم، قد يتساءل ماذا كان موقف العلماء تجاه هذه الأحاديث الموضوعة، وقد اختلطت بالأحاديث الصحيحة؟! وهو تساؤل في محله، فقد عُرضَ على الإمام عبد الله بن المبارك فقيل له :" هذه الأحاديث الموضوعة ؟؟ فقال: تعيش لها الجهابذة ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ ". وصدق الله العظيم فقد قيض لهذه الأمة رجالاً أمناء مخلصين، قاوموا الوضّع والوضاعين وتتبعوهم، وقد عاش لها الجّهَابذة حقاً فوضعوا منهجاً علمياً دقيقاً يميزون به الراوية الصّحيحة مِن المختلقة المفتراة ومنْ هؤُلاَء الجهابذة علماء تونس وشيوخ الزّيتُونة فمنذٌ دخول الإسلام إلى ربوع هذه البلاد الطيبة أنبرى أهلها إلى طلب العلم وعلمائها إلى مضاعفة النشاط العلمي فكان الإهتمام بالسنة الصحيحة الذي كان أهم هاجس عند علماء تونس فكانت الرحلة في طلب الحديث البداية ثمّ تدريس علوم الحديث في جامعة الزيتونة منذ تأسيسها سنة 116 هـ . مما أرسى مدرسة حديثية بتونس تمكنت من التصدي إلى تيار الوضع والتحذير منه. ونستعرض هنا جزءاً مما بذله علمائنا الإجلاء في مقاومة الوضع والتصدي للوضّاعين:
النّشاط في علم الحديث بتونس
حين ظهر الوضع في الحديث ضاعف علماء تونس نشَاطهم في الرّواية والدّراية على حد سَوَاء، و أعتنى أهلُ تونس بعلم الحديث بإعتباره مصدر أساسي بعد القرآن الكريم وكونه يحتوي على زبدة تراث الرسول الأعظم e. وألتمسوا في ذلك الأحاديث الصحيحة، فهرعوا إلى من بقي من الصحابة و من التابعين ومن الأيمة الأعلام رضوان الله عليهم أجمعين يسألونهم عما يسمعون من الأحاديث وهل قالها النبي e أم هي كذب مصنوع.
ففي علم الرواية : نشأ ما يسمى بـ"الرحلات" فقد قطع علماء تونس من الرّواة والمحدّثين الفيافي والقفار، للتأكد من حديث سمعوه، خشية خطأ الراوي أو تعمده في الزيادة. فأتجهوا إلى المشرق العربي (مصر، المدينة، مكة، الشام ...) طالبين الرواية، ملاصقين أهلها متكبدين المشاق للتحصيل على الأحاديث النبوية من رجالها ناقلين ما سمعوا، و ما رووا، وماكتبوا إلى القيروان ثمّ الى المهدية ثمّ الى تونس.
وكان من أوئل الرّحالة " خالد بن أبي عمران التوجيبي " (تـ 125هـ/742مـ) مؤسس المدرسة الحديثية التونسية وناشر العلم بإفريقية . حيث أن بعض الدارسين يطلقون على طريقته العلمية أسم مدرسة ويجعلونها تتميّز برواية الحديث و تتأثّر بمنهج المحدّثين بناءً على أنّ شيوخه من كبار المحدّثين، و أنّ أُصُول رسالته الفقهية التي ألّفها من أجوبة أساتذته من الفقهاء السبعة بالمدينة وغيرهم على أسئلته مستمدّة منْ حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام فهي على غرار الموطأ.
وبعث الخليفة الأموي "عمر بن عبد العزيز" (تـ101هـ/719مـ) بعثته المشهورة إلى إفريقية. وهي بعثة مكونة من عشرة علماء ليفقهوا الناس ويعلموهم القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف وكلهم ثقات عند المحدثين. فأصلوا بذلك علم الحديث والفقه بتونس منذ القرن الثاني هجري، ونشروا الأحاديث الصحيحة التي جاءت عن السلف الصالح فكانت مشكاة أنوار لطالب الحديث بالمغرب وأصلت لمدرسة الحديث بتونس كما ذكر ذلك أبو العرب التميمي (تـ333هـ/944مـ)، والملاحظ أن جلّ هؤلاء العشرة من رجال الكتب الستة ،وقد ترجم لهم ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب.
ويعتبر "علي بن الزياد"(تـ183هـ/799مـ) من العلماء الذي بثّ علوم الحديث في المغرب فعمت جميع أقطاره بدون استثناء وهو أول من وضع بذرة المدرسة الحديثية المالكية بالمغرب إلى جانب الفقه. بعدّ أن جاب أمصار الشرق فزار مصر والحجاز و العراق و أخذ من عُلّمَائها أمثال سفيان الثوّري (تـ161هـ) واللّيث بن سعد (تـ175هـ)، ومالك بن أنّس (تـ179هـ)، وما عاد إلى وطنه تُونس إلاّ وقد ألمّ بأهمّ علومهم وطرائقهم . وقد أصّل علي بن زياد المذهب المالكي بتونس فكان أول من فسر لأهل تونس قول مالك في الموطأ، وقد جرى على نسق سلفه في إقامة دعائم المدرسة التونسية على "فقه الموطّأ المؤسس على الدّعائم الصحيحة من الحديث و الأثَّار" .
فكان لعمل هؤلاء الرجال أو قُل الجهابذة الأفذاذ دور كبير في حفظ السنة النبوية المطهرة ونشر ماصّح منها في أقطار المغرب العربي والتصدي لتيار الوضع و مقاومة الأكاذيب المختلقة على كلام خير البشر فجزاهم الله كل خير على جهودهم هذه. والملاحظ أن تونس ولاّدة للعلماء فلم تنبض ولن تنبض من العلماء إن شاء الله فقد واصل تلامذة علي بن زياد ثم من والهم إلى حفظ السنة ومضاعفة النشاط العلمي بتدريس علوم الحديث والسنة في المساجد والتأليف في ذلك وقد تزامن ذلك مع بناء الجامع الأعظم "جامع الزيتونة" على يد عبد الله بن الحبحاب سنة 116هـ منارة العلم في المغرب و الأمة بأسرها .
زيتونة نفـحـاتها قُدسيّـة *** الله بإسمِهِ قدّ أعَزّ جَنَابهَا
أرسى ابن حبحاب قواعـدمجّدِها *** فأضَاء مصّبَاح التُقَى محرَابهَا
رجال الحديث بتونس؛
وقد أنبرى لذلك الدور الكبير والعلم الشريف في مواصلة عمل السلف في نشر الحديث علماء أفذاذ مثل ؛
البهلول بن راشد (تـ182هـ/798مـ) وعبدالله بن فروخ الفارسي (تـ176هـ/792مـ) وأسد بن الفرات (تـ212هـ/827مـ) و الإمام سحنون ابن سعيد التنوخي (تـ 240هـ/854مـ) الذي أحضر المدونة في رواية ابن زياد عن الإمام مالك . وتواصلت الرحلات إلى المشرق الإسلامي ناقلة التراث الحديثي معتنية بالرواية ونقد الرجال وتعديلاً وضبط أسانيد ، وممن اِشتهر من الأفارقة في هذا العلم رجال ذكرتهم كتب الطبقات والتراجم مثل طبقات أبي العرب ورياض النفوس والمدارك.
وتواصل الإهتمام بالحديث وبدئ التأليف فيه جمعاً وبحثاً عن عوَاليه ، ونقداً لرجاله وشرحاً لما يحتاج إلى الشرح مستعينين بالرّحلات والمراسلات ، وممن عنى بالتأليف فيه ؛
_"أبو عبد الله محمد سحنون": (تـ256هـ/864مـ) له كتاب "تفسير الموطأ" في أربعة أجزاء ، و كتاب "المسند في الحديث" وهو كبير ، و كتاب " السير" ، و"رسالته في السنّة" .
_"أبو العرب محمد بن أحمد التميمي" تـ333هـ/944مـ) له سند أحاديث مالك ، له "طبقات علماء أفريقية" و "ثقات المحدثين وضعافهم" وكتاب: عوالي حديثه
_"علي بن محمد بن خلف المعروف بأبي حسن القابسي" تـ403هـ/1012مـ) كان حافظ ، وعارف بعلل الحديث له :"الملخص في إختصار الموطأ" ، وذكر أنه أول من أتى بصحيح البخاري إلى إفريقية .
_"أبو عمران موسى بن عيسى الخفجوني الفاسي القيرواني" (تـ430هـ/1038مـ) ذكر عنه انه يعرف معاني الأحاديث ورجاله له كتاب "عوالي حديث" .
_"أبوعمرو عثمان بن أبي بكر حمود الصفاقسي المعروف بإبن الضابط الصفاقسي" (تـ444هـ/1052مـ) رحالة له "عوالي تعرف بعوالي الصفاقسي"
_"الإمام المازري محمد بنعلي بن عمر التميمي" تـ536هـ/1141مـ) صاحب كتاب "المُعلم بفوائد مسلم" ولعله أول تأليف في صحيح مسلم بإفريقية وقد لقى رواجاً كبيراً في الأوساط الإفريقية والأندلسية فأصبح يدرس وتناقش مسائله ويطلب فيه الإجازة وتكتب حواله تعاليق وحواشي.
_"أبوعبد الله محمد بن خلفة بن عمر الوشتاتي التونسي المالكي الشهير بالأبّي" (تـ828هـ/1424مـ) وهو الذي قال فيه شيخه محمّد إبن عرفة (ت803هـ) قوله المشهور "كيف أنام وأنا بين أسدين الأبّي بفهمه وعقله والبرزلي بحفظه ونقله " إنما هي شهادة على المكانة التي كان يحظي بها الأبّي عند شيخه الذي يحسب أن تلميذه سيُحيِ دين الله ويحفظ سنة نبيه ويدفع عنها من الشبهات وتجسد ذلك فعلا في مصنفه"إِكْمَال إكْمَال المُعْلِم".
وفي أوائل العهد الحفصي طرأ على النشاط الثّقافي التونسي حدثاً، كانت له أهمية قصّوى في حركية العلوم الإسلامية أعني هجرة الكثير من العلماء الأعلام من الأندلس . فقد كان لها تأثير ذُو وَبَال على علم الحديث رواية و دراية، بفضل ما جلبوا من روايات وما نقلوا من كتب حديثيه شملت كافة علوم الحديث ومسائله كانت مدار أبحاثهم، وأبحاث من سبقهم من علماء منذ العصور الأولى بالأندلس ذلك لأن علماء هذا البلد الإسلامي اِعتنوا بالحديث رواية ودراية فقد اِرتحلوا وحفظوا وقيدوا ورووا ونقلوا من الروايات الحديثية الشئ الكثير ونقدوا وكتبوا في هذا العلم وفي فضائله وأكبوا على دراسة روايته ومسنديه ومؤلفيه. وألفوا في رجاله وكل ما يتصل بهم من أنساب وتعديل وتجريح وصحبة ونقاد الأحاديث والمعتنين به، وشغفوا بمصطلح الحديث، ونافسوا في كل ذلك علماء المشرق حتى كادوا يساوونهم، وأكثروا من المستخرجات وتفننوا في الجمع بين صحاحه، وعددّوا التأليف حول صحيح البخاري شارحين متونه متدارسين فقه تراجمه ناقدين لأسانيده ... كما كتبوا عن سنن أبي داود والنسائي وجامع الترمذي ثمّ شاع عندهم صحيح مسلم فشرحوه وتتبعوا أسانيده، ونقدوا طريقته، وأضافوا إلى الشروح شروحاً وتعاليق وحواشي ولخصوا وأختصروا ودونوا الكتب .
ولم يطرَأ على هذا النشاط الحديثي أي تقطيع، ولم يعب هذا الإعتناء بأي آنفصام فيما يبدوا حتى إذا ما حل النصف الأول من القرن السابع هجرياً معظمهم إلى افريقية نقلوا معهم الثروة الحديثية وشاركوا برصيدهم ذلك علماء تونس وبهذا تكونت تلك الحركية النشيطة في ميدان علوم الحديث فبرز بتونس من العلماء المعنيين بالحديث أمثال :
_ "أبوالحجاج يوسف بن محمد بن إبراهيم البياسي" تـ635هـ/1255مـ محدث فاضل من طلبته الأمير الحفصي وجمع له أحاديث كتاب "المستصفى" وأستخرجها من الأمهات ونبه على الصحيح منها و السقيم.
_"أبو بكر محمد بن أحمد المعروف بإبن السيد الناس" تـ659هـ/1261مـ محدث حافظ وراوية، يقم على البخاري قياماً حسناً، كان عالماً بالإسناد والرجال نسبياً وتعديلاً وتجريحاً وعارفاً بالعربية وفقه الحديث والخلاف العلمي يذكر أنه أستظهر ستة ألاف حديث بأسانيدها ويذكر بإضعافها .
_"أبو زيد عبد الرحمن بن علي بن عبد الله الأنصاري الأسدي القيرواني" تـ699هـ/1299مـ محدث مسند من تأليفه :"سراج المتقين المنتخب من كلام سّيد العالمين"
هذا وفي رحلة ابن رشيد، خصوصاً الأجزاء الخاصة بتونس، فوائد غزيرة تخص النشاط الحديثي في هذا العصر، وهي لازالت مخطوطة وتوجد نسخة منها لدى الشيخ محمد الحبيب بن الخوجة. وهي تستحق العناية لكونها تحمل تاريخ مدرسة الحديث بتونس.
انجازات المدرسة الحديثيّة بتونس؛
والملاحظ هنا أن هذه الجهود العلمية بدأت تؤتي أكلها فظهرت كتب الحديث بتونس وأصبحت تدرس في المساجد وفي جامع الزيتونة. فقد أهتم علماء تونس وبذلوا كل جهدهم في تدريس كتب السنة الصحيحة لطلبة العلم بالخصوص وعامة الناس عموماً ولعل من أهم هذه الكتب التي لقيت اِهتماماً كبيرًا :
"الموطأ": فمنذ وصوله إلى تونس على يد "خالد ابن أبي عمران" و "علي بن زياد"، أنكب عليه علماء تونس بدراسته وتدريسه رواية ودراية فكان يدرس في جامع الزيتونة وفي مدارس الحاضرة بشروحه المختلفة كـ"التمهيد لما في الموطأ من المعاني و الأسانيد" لأبن عبد البر وكتاب "التقصي" لأبن عبد البر كذلك ، وقدّ جمع فيه ما في الموطأ من الأحاديث المرفوعة موصولة كانت أم منقطعة، مرتبة على شيوخ مالك وكان بعض العلماء يفضّلونه على كتاب "الملخّص" في نفس موضوعه لأبي الحسن القابسي . وهذا الأخير ساهم بدوره إلى جانب أبو ميمونة دراس بن إسماعيل الفاسي (تـ 357هـ/967مـ) في تدريس الصحيحان في مساجد تونس.
بعد أنّ شدّوُا الرّحَال إلى المشرق لطلّب الرواية الصحيحة للبخاري إلى كل من مصر والعراق عن طريق "أبوهيثم الكشّمهِينِي" (تـ389هـ/999مـ) و"أبو أحمد الجُرجاني" (تـ 373هـ /983مـ) و أقبل عليه الناس دراسة ونقداً وقراءةً وإستشهاداً و مقارنة مع غيره من كتب الحديث . فلقد كانا يدرس و يناقش ما فيه ، ويتحدث عن رجاله .
أمّا عن"صحيح مسلم" فقد كانت العناية به أكثر ولا بد من التعرض هنا إلى أنّ الأهتمام بالصحيحين لم يبق بصفة متوازنة فقد تغلب الاِعتناء بصحيح مسلم بتونس كما يظهر من مؤلفات القرن السادس وما يليه وأصبحت أحاديث مسلم تطغى على صحيح البخاري لقد لفت هذا الأمر نظر القدامى أنفسهم فذكر أبن الصلاح (تـ642هـ/1245مـ) "أنّ شيوخ المغرب يفضلون كتاب مسلم على كتاب البخاري " نظراً لسهولة تناوله ولإجتماع أحاديثه في مظانها بدون تكرار ولا تقطيع ، كما أنّ ابن خلدون الذي تعلم بتونس أواسط القرن الثامن ودرس فيما درس كتب الحديث وسمع من أساتذته ...جلبت نظره أيضاً كثرة عناية أهل المغرب بصحيح مسلم و إنكبابهم عليه .وأنهم مجمعون على تفضيله على كتاب البخاري.
ويظهر أنّ من الأسباب التي جعلت لكتاب مسلم تلك المنزلة المرموقة هو قيام الإمام المازري(ت536هـ) بتدريسه بالمهدية و تقييد تلاميذه لتلك الدروس و إنتشار "المُعْلَم" بإفريقة و الأندلس ثم قيام القاضي عياض(ت544هـ) بتأليف كتابه "إكمال المعلم" الذي أجاد فيه و أحسن فكان عمدة من جاء بعده من الشراح حتى أن بعض العلماء النقّاد قال : " لولا الإكمال لما علم النووي أين يمشي وأين يجيء " . وبهذا العمل وذاك سهل تناول كتاب مسلم ، وذلك حين أبعداً شريحهأً عن الأطناب في الرجال ومايتصل بهم من أنساب وجرح و تعديل ونقد ومن الإسناد وما يتصل به عن طرق تحمل وصيغة. لقد كان إكمال المعلم يدرس ويناقش من طرف شيوخ الزيتونة كأبي المنتصر ابن عبد السلام ومحمد بن عرفة وغيرهم .
بعد أن تداول الموطإ بإفريقية وصحيح البخاري ومسلم بإفريقية، تداولت أيضاً بقية الكتب الحديثية الأخرى غير أن أكثرها إستخدماً وأوسعها إنتشاراً كتب السنن المشهورة، إضافة إلى مصنفات من الطبقة الثالثة: كمصنف عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت211هـ/826مـ)، وكتاب "السنن" لأبي الحسن علي بن عمر الدراقطني (ت385هـ/995مـ) و"التقصي لأحاديث الموطأ" لأبن عبد البرّ و"مقدمة ابن الصلاح" في المصطلح و"إكمال المعلم" للقاضي عياض وكتاب "الشفا" وهو أكثر الكتب إنتشاراً بين أهل تونس والمغرب إلى جانب الأربعون للنووي. وبهذا إكتسب علماء تونس علم الحديث رواية و دراية بعد أن علموا قوانينه المخصوصة التي يتميز بها الغث من السمين، في معرفة الحديث فجعلوها قائمة على أصول أسسها علماء الحديث ليبنوا عليها أحكامهم، ومنها :
إعتنائهم بفن التواريخ، ليعلم منه تاريخ الراوي ووفاته، يقول سفيان الثوري: "لما أستعمل الرواة الكذب، أستعملنا لهم التاريخ" . فالتاريخ مَثلَ أداة أساسية وكشاف للمحدثين في نقد الرواية واِكتشاف الوضع.
فن الجرح والتعديل، وبه اِستطاعوا معرفة أحوال الرواة، فأنكشف لهم الوضّاعون. وهو مطلب مهم جليل إذّ عليه مدار التّمييز بين الصّحيح والسّقيم من الحديث وكان ذلك نتاج الرحلة التي أفادت علماء تونس في معرفة أحوال رواة الحديث، وذلك عن طريق اِحتكاكهم بالنّقّاد، وحضورهم مجالس جهابذة علم الرّجال مثل :سليمان بن مهران الأعمش (ت148هـ) ، واللّيث بن سعد (ت175هـ)، وهشيم بن بشير(ت183هـ) ووكيع بن الجراح (ت197هـ)، وعبد الرحمن بن مهدي (ت198هـ)، وأبي الحسن أحمد بن عبد الله العِجْلِي الكوفي (ت161هـ)، وأحمد بن شعيب النسائي (ت303هـ) ، وغيرهم من المتكلمين في الرجال، والمقبول قولهم في الجرح والتعديل. وكان التونسيون ينقلون عن هؤلاء الشّيوخ ما أفادوه منهم ممّا يتعلق بأحوال الرّواة. وبالإضافة إلى ذلك فقد قاموا بإدخال جملة من المصنفات، المتعلقة بأحوال رواة الحديث ونشروها في تونس مماّ زاد في توطيد دعائم هذا الفن، مثل تاريخ يحي بن معين (ت 233هـ)، و "التاريخ الكبير" للإمام البخاري (ت256هـ) ، و"الأسماء والكنى" لأبي أحمد محمد الحاكم الكبير (ت378هـ)، وكتاب "الهداية و الإرشاد في معرفة أهل الثقة و السداد " لأبن نصر أحمد الكلاباذي (ت 39 ... .
النظر في كيفية التحمل وأخذّ الرواة بعضهم عن بعض، وعن طريقه عرف العلماء اتصال الروايات من اِنقطاعها.. إلى غير ذلك من القواعد التي وضعوها لدراية الحديث، وبها حققوا أقصى ما في الوسع الإنساني، اِحتياطا لدينهم، وأرسوا أصح القواعد للإثبات التاريخي وأعلاها وأرقاها، وقد قلدهم فيها علماء الفنون الأخرى من لغة وأدب وتاريخ ونحوها، فابن خلدون الذي يعد من أوائل نقاد التاريخ، أستمد ذلك من معارفه الحديثية، فكان ذلك في تمييزه الزائف والسقيم من أخبار المؤرخين، فمقاييسه التي طبقها هي بعينها الأمثلة التي وضعها الإمام مسلم و الإمام المازري و القابسي لمعرفة المنكر من الحديث.
وقد أشار الشيخ "محمد الحبيب بن الخوجة" إلى الفوائد الجمة من إتباع هذا المنهج الحديثي العلمي بقوله :" ولا بدّ من ملاحظة ما مرّ به العلمَ من مراحل الرواية والتحمل والتبليغ و التصنيف وقد خالط ذلك ما أساء إلى هذا العلم من تدليس ووضع وكذب ممن كان عاجزاً عن الإشتغال به رواية ودراية ،نقد واستنباطا. وذلك بسبب طلب الشهرة وعلو المنزلة العامة، وهذا من صنيع الوعاظ والقصاصين وأنصار المذاهب وحماة السنة والذائدون عنها المحققون لها لم يَألٌ أحدهم جهداَ في نقد الرواة والتعديل والتجريح وضبط الأسانيد الصحاح فوضعت بذلك شروط التخريج وبينت معاني الحديث ووَضع الكتب في مصطلح هذا العلم عمداؤه حتى أصبح علم الحديث أكثر العلوم الإسلامية إتقاناَ وإحكاماَ ، وكتبه أسلم من الإخلال التي لحقت غيرها من التصانيف ".
الأختام الحديثية بتونس : تعتبر الأختام الحديثية من أهمّ جهود علماء تونس المعاصرين في تنشيط علم الحديث بتدريس كتب السنة الصّحاح وشرحها للعامة في المساجد وهي أختام جامعة للدراية والرواية حرص فيها علماء تونس على المستوى العلمي وركزوا على تبليغ ماصّح عن النبي e وهي توجد بأكثر مدارس الحاضرة
و مساجدها الجامعة .
جامع الزيتونة : جامع الزيتونة الأعظم كمعهد دراسي له تاريخ مجيد درست فيه العلوم الحديثية رواية ودراية من القرن الثاني للهجرة جلس فيه للتدريس أمثال علي بن الزياد وهو من رجال ذلك القرن و تخرجت فيه طبقات اشتهرت في التاريخ بسمو المدارك العلمية وغزارة المعلومات وعلوا الكعب في التدريس والفتوى فالسند العلمي متصل الحلقات على مر العصور إلى عهدنا الحاضر وهو الميراث الإسلامي من رسول الله e. كان لتعليم الزيتوني ولا يزال الدور الكبير في حفظه و نشره و هو عمل جلي يستحق كل التقدير.
المصادر والمراجع
"مدرسة الحديث في القيروان من الفتح الإسلامي إلى منتصف القرن الخامس الهجري" شواط ,الحسين بن محمد، نشر: الدار العالمية للكتاب الإسلامي الطبعة الأولى/ 1411هـ .
"طبقات علماء إفريقية" : أبي العرب التميمي.
"المجلة الزيتونية"عدد 2/3 السنة الثانية والثالثة :ص52/53 .
"شيخ الإسلام الإمام الأكبر محمد الطاهر بن عاشور" لأبن الخوجة محمد الحبيب ج/1.
بقلم علي العلايمي ومحمد أمين الفاهم